الكلمة المربية

من تولد النور في قلبه ، فقد فتح له الطريق إلى السماء ليسمو ، ويعرج سماء بعد سماء ، كلما ركع وسجد ، ودعا وتضرع ، ومعنى ذلك أن السعادة فتحت له بواباتها الكبيرة ، ليلج من أيها شاء !

فسرور القلب إنما يتولد من قوة النور فيه ، وكلما قوي هذا النور فاض على مساحة القلب بالمسرة ، ثم فاض من داخله على من حوله ..


فإذا دام له ذلك واتسعت دائرة التوهج ، يجد نفسه كأنه انتقل إلى عالم آخر ، أو دخل دنيا جديدة ليس فيها من دنيا الناس إلا الاسم !

أما دنياه الجديدة فملأى : بالمسرة والبهجة وشوارق الأنوار ..!

وعند أمثال هذا الإنسان المتميز يصبح للأمور معنى آخر ، ويمسي للأحداث نكهة غير !


وإن أقوى ما يتولد هذا النور منه ، إنما العيش مع كتاب الله سبحانه ..

إن الإنسان ليقرأ مثلاً قول الله تعالى (قل يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء )

فلا يفهم منها إلا ما يفهمه عامة الناس إذا مروا بها ، لا معنى لقوله ( تعالوا ) إلا أنها بمعنى أقبلوا ! أو هلموا .. ثم لا شيء وراءها من معاني تربوية مربية !

غير أن من فتح بصيرته أمام هذه الآية تتجلى له في الكلمة معانٍ ربانية جليلة ، فيجد لاختيارها دون سواها مما يشابهها ، وقعا رائعا في نفسه ، يهز نفسه ، ويسمو بقلبه ، أنه يلمح في طيات هذه الكلمة درسا كبيراً لا ينبغي أن يغيب عن بؤرة شعور كل مسلم حيثما كان ..

قال بعض العارفين رحمهم الله :

لو كان معنى الكلمة أقبلوا ، أو هلموا ، لقالها القرآن صريحة ، ولكنه عدل عن ذلك واختار ( تعالوا ) دون غيرها .. لماذا ؟

ذلك ليربي المسلم على معنى تربوي دقيق وخطير .. حيث أن كلمة ( تعالوا ) لا يصح أن يقولها الصغير للكبير ، ولا التلميذ لمعلمه ، ولا الولد لأبيه ، ولا الجندي لقائده ، ولا المريد لشيخه ، ولا المرؤوس لرئيسه ، ولا العبد لسيده ..

بل لوقال هؤلاء لأولئك هذه الكلمة فسيكونون قد أساءوا الأدب ، وقد تتم عقوبتهم على هذه الإساءة ، ولك أن تتخيل لو أن جنديا قال لقائده في المعسكر ( تعال ) !! ماذا يمكن أن يكون ..!!

إن العكس هو الصحيح ، حيث لا يقول هذه الكلمة إلا الأب لولده ، والسيد لخادمه ، والقائد للجندي في فرقته ، والشيخ لمريده ، والأستاذ لمعلمه ..

ومن ثم فإن اختيار هذه الكلمة في هذه الموضع من القرآن إنما يراد منها أن تربينا على أن المسلم له الأستاذية في هذا العالم ! هو القائد ، وهو المعلم ، وهو المرشد ! فهو الذي يقول لغيره : تعال ، ولا تقال له ..!

وشيء آخر :

تعال .. من التعالي ، والارتفاع .. فكأن هؤلاء واقعين أرضاً في وحل الوحل ، متمرغين في قاع القاع ، فيمد لهم المسلم يده ويهتف بهم ، تعالوا ..أخرجوا مما أنتم فيه ليصح أن تسمعوا ما يراد أن يقال لكم ..!!


والشاهد في هذا المثال :

أن هذه الكلمة كما راينا يمكن أن ينظر إليها نظرتين ، نظرة سطحية عابرة لا تتجاوز اللفظ ، ولا تجدها تربيك على أي معنى من ورائها ، ونظرة أخرى عميقة تتجاوز ظاهر الحروف لتغوص إلى ما وراء وراء ، فتتضع بين يديك معنى دقيقاً عجيباً ، يربيك على روح الاعتزاز والثقة ، والشعور بالأستاذية !!

وليست هذه هي الكلمة الوحيدة في كتاب الله سبحانه ، التي يتجلى فيها هذا العجب ، فهناك كلمات مماثلة ، في مواضع متفرقة ، كل منها يربيك على معنى كبير .


وإن الإنسان حين ينور الله قلبه ، وينتبه لهذا الأمر ليجد في كتاب الله روحا وريحانا ، وأنسا وجنة معجلة ، ونعيما وشلال أنوار ..

فكيف لا يجد مثل هذه القلب سعادته وبهجة قلبه وهو يقضي ساعات بين يدي ربه ، يتلو كتابه ، ويقلب النظر في آياته ، ويتدبر كلماته ، ويبحث عن دروسه ، فلا يخرج من عجب إلا ليقع على عجب ..


لعل الله ييسر لنا لنعرض أمثلة أخرى على كلمات مربية أخرى .. كل منها حين تتأمله تجده يربيك على معنى كبير يفوت أكثر الخلق وهو يقرأون كتاب الله سبحانه .. فإلى الملتقى .